-->

قصة الخلق

مقال بقلم المغفور له باذن الله الدكتور مصطفى محمود

القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.. و هو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها ( أينشتين) بالمعادلات.. و لا كما يعرضها عالم ( بيولوجي) برواية التفاصيل التشريحية.. و إنما يقدمها بالإشارة و الرمز و المجاز و الاستعارة و اللمحة الخاطفة و العبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف، إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها و تفسيرها على معاصريها.. و لكنه يعلم أن التاريخ و المستقبل سوف يشرح هذه الكلمة و يثبتها تفصيلا.

(( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) (53 – فصلت)
و الله يقول عن كلامه:
(( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (7 – آل عمران)
و يقول عن القرآن:
(( ثم إن علينا بيانه)) (19 – القيامة)
أي أنه سوف يشرحه و يبينه في مستقبل الأعصر و الدهور.
فماذا قال القرآن عن قصة الخلق؟

إنه يقول عن الله في البدء الأول:

(( ثم استوى إلى السماء و هي دخان..)) (11 – فصلت)
في البدء كان شيئا كالدخان جاء منه الكون بنجومه و شموسه:
(( يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل..)) (5 – الزمر)
و هي آية لا يمكن تفسيرها إلا أن نتصور أن الأرض كروية و الليل و النهار كنصفي الكرة ينزلق الواحد منهما على الآخر بفعل دوران هذه الكرة المستمر.. بل إن استعمال لفظ (( يكور)) هو استعمال غريب تماما.. و يفرض علينا هذالتفسير فرضا:
 

(( و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)) (39 – يس)
و العرجون هو فرع النخل القديم اليابس لا خضرة فيه و لا ماء و لا حياة.
(( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون)) (40 - يس)
بل إنه يصف الفضاء بأن فيه طرقا و مجاري و مسارات.
(( و السماء ذات الحبك)) (7 – الذاريات)
و الحبك هي المسارات.
و يصف الأرض بأنها كالبيضة:
(( و الأرض بعد ذلك دحاها)) (30 – النازعات)
و دحاها أي جعلها كالدحية ( البيضة) و هو ما يوافق أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض.
و يقدم فكرة الحركة الخفية من وراء السكون الظاهر:
(( و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب..)) (88 – النمل)
و تشبيه الجبل بسحابة هو تشبيه يقترح على الذهن تكوينا ذريا فضفاضا مخلخلا، و هو ما عليه الجبل بالفعل، فما الأشكال الجامدة إلا وهم، و كل شيء يتألف من ذرات في حالة حركة.. و الأرض كلها بجبالها في حالة حركة.

و ما يقوله المفسرون القدامى من أن هذه الآية تصف ما يحدث يوم القيامة.. هو تفسير غير صحيح لأن يوم القيامة هو يوم اليقين و العيان القاطع و لا يقال في مثل هذا اليوم (( و ترى الجبال تحسبها)).. فلا موجب لشك في ذلك اليوم.

(( و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)) (105 – طه)
هذه هي القيامة بحق، لا مجال هنا لأن تنظر العين فتحسب الشيء قائما و هو ينسف.. فالآية إذن وصف لحال الجبال في الدنيا و لا يمكن أن تكون غير ذلك.

ثم يروي لنا القرآن بعد ذلك ما يحدث لمياه الأمطار:

(( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض..)) (21 – الزمر)
و هو بذلك يشرح دورة المياه الجوفية من السماء إلى سطح الأرض إلى جوفها إلى خزانات جوفية ثم إلى نافورات و ينابيع تعود إلى سطح الأرض من جديد.
ثم يأتي ذكر الحياة.
(( و جعلنا من الماء كل شيء حي..)) (30 – الأنبياء)
(( و الله خلق كل دابة من ماء..)) (45 – النور)
(( أكفرت بالذي خلقك من تراب..)) (37 – الكهف)
(( و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون)) (28 – الحجر)

و الحمأ المسنون هو الطين المنتن المختمر.

فهو مرة يذكر أن الحياة خلقت من الماء و مرة يذكر أنها خلقت من تراب ثم يعود فيخصص و يقول من الطين أو على وجه الدقة الماء المنتن المختمر المختلط بالتراب.. و هو اتفاق غريب و دقيق مع اكتشافات العلم بعد ألف و أربعمائة سنة

و في سورة الأعراف يروي بتفصيل أكثر:

(( و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين)) (11 – الأعراف)
و في هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية
((خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم..)) (11 – الأعراف)
و الزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا:
(( و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)) (47 – الحج)
و في مكان آخر:
(( تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) (4 – المعارج)

هذه إذن أيام الله.. و هي شيء كالآباد و الأحقاب بالنسبة لنا، فإذا قال الله خلقناكم ثم صورناكم.. ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم.. معنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق و التصوير و التسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا و أياما بزمن الله الأبدي..

(( و قد خلقكم أطوارا)) (14 – نوح)

و معناها أنه كانت هناك قبل آدم صور و صنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها

.
(( هل أتى على الإنسان حين من الدهرلم يكن شيئا مذكورا)) (1 – الإنسان)
إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيئا يذكر. و يقول القرآن عن الله إنه هو:
(( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)) (50 – طه)
أي إنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم.
(( و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..)) (38 – الأنعام)
(( و الله أنبتكم من الأرض نباتا)) (17 – نوح)

ربط وثيق بين أمة الإنسان و بين أمم الدواب و الطير ثم ربط بين الإنسان و الحيوان و النبات.

(( و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)) (12 – المؤمنون)

و هي إشارة صريحة إلى أن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء.. و إنما خلق من سلالات جاءت من الطين.. هناك

مرحلة متوسطة بين الإنسان و الطين.. هي سلالات عديدة متلاحقة كانت تمهيدا لظهور نوع الإنسان المتفوق.. ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكي لنا أن خلق العظام سابق على خلق العضلات:
(( فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما..)) (14 – المؤمنون)

و معلوم في علم الأجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضلات و عن هذه النشأة يقول:

(( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث..)) (6 – الزمر)

يكشف لنا الخلق داخل الرحم، فيصفه بأنه يتم على أطوار.. خلق من بعد خلق.. و أنه يجري داخل ظلمات ثلاث.. و الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة (الغلاف الأمنيوسي).. كل غرفة منها داخل الأخرى.. و الجنين في قلبها، و هي حقائق تشريحية.. أو هي ظلمات الأغشية الثلاثة التي يتألف منها الجنين ذاته و هي

حقيقة أخرى.

(( و أنه خلق الزوجين الذكر و الأنثى، من نطفة إذا تمنى)) (45، 46 – النجم)

و نعرف الآن أن الحيوان المنوي الذي يمنى هو الذي يحدد جنس المولود إن كان ذكرا أو أنثى و ليس البويضة، فهو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس

sex determination factor


كيف جاء القرآن بهذه الموافقات التي اتفقت مع نتائج العلوم و البحوث و الجهود المضنية عبر مئات السنين!.. مصادفة؟!


و إذا سلمنا بمصادفة واحدة فكيف نسلم بالباقي؟


و كيف يخطر على ذهن نبي أمي مشكلات و قضايا و حقائق لا يعرفها عصره؟.. و لا تظهر إلا بعد موته بأكثر من ألف و ثلاثمائة سنة؟


و إذا أخذنا بالتفسير الغربي الملحد الذي يرى في ذلك الكلام الذي يجيء على لسان محمد صورة من نشاط عقل باطن انفتح تماما على الحقيقة المطلقة.. إذا قلنا هذا فقد اعترفنا اعترافا مهذبا جدا و علميا بالوحي.. فما الحق المطلق سوى الله و ما الانفتاح على الله و الاتصال به إلا الوحي بعينه.



هذا المقال من كتاب القران كائن حى للدكتور مصطفى محمود

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "قصة الخلق"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات