-->

هل الدين أفيون ؟


قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه : وما رأيك في الذين يقولون إن الدين افيون !!.. وانه يخدر الفقراء والمظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين .. في حين يثبت الاغنياء على غناهم باعتبار انه حق .. وان الله خلق الناس درجات .. وما رأيك في الذين يقولون إن الدين لم ينزل من عند الله .. وإنما هو طلع من الأرض من الظروف والدواعي الاجتماعية ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة ..؟
وهو يشير بذلك إلى الماديين وأفكارهم ..

قلت :
ليس أبعد من الخطأ القائل بأن الدين افيون .. فالدين في حقيقته أعباء وتكاليف وتبعات .. وليس تخفيفاً وتحللاً ..وبالتالي ليس مهربا من المسؤوليات وليس افيوناً ..وديننا عمل وليس كسل .. ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم )
ونحن نقول بالتوكل وليس التواكل ..والتوكل يقتضي عندنا واستفراغ الوسع ..وبذل غاية الطاقة والحيلة .
ثم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحكمه .(فإذا عزمت فتوكل على الله )
العزم أولاً..

والنبي يقول لمن أراد أن يترك ناقته سائبة توكلاً على حفظ الله (اعقلها وتوكل )
أي ابذل وسعك أولا فثبتها في عقالها ثم توكل .. والدين صحو وانتباه ويقظة . ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير .. في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر .وليس هذا حال آكل الأفيون .

إنما اكل الافيون  الحقيقي هو المادي الذي ينكر الدين هرباً من تبعاته ومسؤولياته .
ويتصور ان لحظته ملكه . وانه لا حسيب ولا رقيب ولا بعث بعد الموت .. فيفعل ما يخطر على باله .وأين هذا الرجل من المتدين المسلم الذي يعتبر نفسه مسؤولاً عن سابع جار .. وإذا جاع فرد في امته او ضربت دابة عاتب نفسه بأنه لم يقم بواجب الدين في عنقه ..
وليس صحيحاً ان ديننا خرج من الأرض .. من الظروف والدواعي الإجتماعية  .. ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة وتثبيتا لغنى الاغنياء  وفقر الفقراء ..

والعكس هو الصحيح .. فالإسلام  جاء ثورة على الأغنياء والكانزين المال والمستغلين الظالمين .. فأمر صراحة بألا يكون المال بين الأغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم .. وإنما يكون حقاً للكل ..
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم )
والإنفاق يبدأ من زكاة إجبارية (2,5) في المائة .. ثم يتصاعد اختيارياً إلى كل مافي الجيب وكل مافي اليد .
فلا تبقي لنفسك إلا خبزك ..كفافك ..
(يسألونك ماذا ينفقون قل العفو)
والعفو هو كل مازاد على الكفاف والحاجة .. وبهذا جمع الإسلام بين التكليف الجبري القانوني والتكليف الإختياري القائم على الضمير ..
وهذا أكرم للإنسان من نزع أملاكه بالقهر والمصادرة .. ووصل إلى الإنفاق إلى مافوق التسعين في المائة بدون إرهاق ..
ولم يأت الإسلام ليثبت ظلم الظالمين . بل جاء ثورة صريحة على كل الظالمين .
وجاء سيفاً وحرباً على رقاب الطواغين والمستبدين ..
أما التهمة التي يسوقها الماديون بان الدين رجعي وطبقي بدليل الآيات ..

(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق )
(ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات )
فنحن نرد بأن هذه الآيات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو .. بمثل ما تنطبق على القاهرة ودمشق وجدة ..
وإذا مشينا في شوراع موسكو فسوف نجد من بسير على رجليه .. ومن يركب بسكليت . ومن يركب عربة موسكوفتش..
ومن يركب عربة زيم فاخرة ..

وماذا يكون هذا إلا التفاضل في الرزق بعينه والدرجات والرتب الإقتصادية ..
والتفاوت بين الناس حقيقة جوهرية .. ولم تستطع الشيوعية ان تلغي التفاوت ..
ولم يقل حتى غلاة المادية والفوضوية بالمساواة ..
والمساواة غير ممكنة فكيف نساوي بين غير متساويين ..

الناس يولدون من لحظة الميلاد غير متساوين في الذكاء والقوة والجمال والمواهب .. يولدون درجات في كل شيء..
وأقصى ما طمعت فيه المذاهب الإقتصادية هي المساواة في الفرص وليس المساواة بين الناس ..
ان يلقي كل واحد نفس الفرصة في التعليم والعلاج والحد الادنى للمعيشة .. وهو نفس ما تحض عليه الأديان ..
أما إلغاء الدرجات وإلغاء التفاوت فهو الظلم بعينه والأمر الذي ينافي الطبيعة ..
والطبيعة تقوم كلها على أساس التفاضل والتفاوت والتنوع في ثمار الأرض وفي البهائم وفي الناس ..
في القطن نجد طويل التيلة . وقصير التيلة .. 

وفي الحيوا والإنسان  نجد الرتب والدرجات والتفاوت أكثر .. هذا هو قانون الوجود كله ..التفاضل..
وحكمة هذا القانون واضحة . فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد ونسخة واحدة .. لما كان هناك داع لميلادهم أصلاً.
وكان يكفي أن نأتي بنسخة واحدة فتغني عن الكل .. وكذلك الحال في كل شيء..
ولانتهى الامر إلى فقر الطبيعة وإفلاسها ..وإنما غنى الطبيعة وخصبها لا يظهر إلا بالتنوع في ثمارها وغلاتها والتفاوت في ألوانها وأصنافها .. ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين الأغنياء والفقراء ..
بل أمر بتصحيح الأوضاع وجعل للفقير نصيباً من مال الغني.
وقال ان هذا التفاوت فتنة وامتحان ..(وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون )
سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته .

هل ينجد بها الضعفاء أو يضرب ويقتل ويكون جباراً في الأرض ..؟
وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه ..
هل يسرق ويطغى ..؟ أو يعطف ويحسن ..؟
وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره .. هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس ..
أو يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل .. وقد أمر الدين بالعدل وتصحيح الأوضاع بالمساواة بين الفرض.. وهدد بعذاب الآخرة وقال إن الآخرة ستكون أيضاً درجات أكثر تفاوتاً لتصحيح مالم يجر تصحيحه في الأرض
((وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ))

وللذين يتهمون اللإسلام بالرجعية السياسية نقول إن الإسلام أتى بأكثر الشرائع تقدمية في نظم الحكم .
احترام الفرد في الإسلام بلغ الذروة ..وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوق عليه .. فماذا يساوي الفرد الواحد في الإسلام إنه يساوي الإنسانية كلها .
(من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعا  ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ).
لا تغني المنجزات ولا الإصلاحات المادية ولا التعمير ولا السدود ولا المصانع .. إذا قتل الحاكم فردا واحدا ظلما في سبيل هذا الإصلاح , فإنه يكون قد قتل الناس جميعا .

ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياسي قديم أو جديد.. فالفرد في الإسلام له قيمة مطلقة بينما في كل المذاهب السياسية له قيمة نسبية .. والفرد في الإسلام آمن في بيته .. وفي أسراره  "لا تجسس ولا غيبة " آمن في ماله ورزقه ومليكته وحريته .
كل شيئ حتى التحية حتى إفساح المجلس حتى الكلمة الطيبة  لها مكان في القرآن .
وقد نهى القرآن عن التجبر والطفيان والإنفراد بالحكم .

وقال الله للنبي "وهو من هو في كماله وصلاحيته "
(وما أنت عليهم بجبار)
(فذكر إنما أنت مذكر , لست عليهم بمسيطر ).
(إنما المؤمنون إخوة )
ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه  العظيم :
(لا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله ).
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ).
ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء الأغلبية المضللة وقال أن :
(بل أكثر الناس لا يعلمون ).
(بل أكثرهم لا يعقلون ).
(أكثر الناس لا يؤمنون ).
(إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ). " يكذبون "
(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ).
ونهى عن العنصرية والعرقية : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).
(هو الذي خلقكم من نفس واحدة ).

وبالمعنى العلمي كان الإسلام تركيبا جدليا  جامعا بين مادية اليهودية وروحانية المسيحية ,بين العدل الصارم الجاف الذي يقول : السن بالسن  والعين بالعين  . وبين المحبة والتسامح المتطرف الذي يقول :من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .
وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد عن الآخرة , وبين الإنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة , ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل والمحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح والمغفرة .

(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ).
وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغلال الآخرين ..وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما .. فإن الإسلام قدًم الحل الوسط
(للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ).
الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها ..وإنما له فيها نصيب .. وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من 2.5 في المائة إلى  90% جبرا واختيارا .. وهذا النصيب ليس تصدقا وتفضلا وإنما هو حق الله في الربح .. وبهذه المعادلة الجميلة حفظ الإسلام للفرد حريته وللفقير حقه .

ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة الإسلام قائلا : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا ).
فقد اختار الإسلام الوسط الحسابي العدل في كل شيئ.
وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين  "اليمين واليسار" ويتجاوزهما ويزيد عليهما .. ولذلك ليس في الإسلام يمين ويسار وإنما فيه "صراط " الاعتدال الوسط الذي نسميه الصراط المستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف .

ولم يقيدنا القرآن بدستور سياسي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم الله بأن الظروف تتغير بما يقتضي الاجتهاد في وضع دساتير متغيرة في الأزمة المتغيرة , وحتى يكون البا مفتوحا أمام المسلمين للأخذ والعطاء من المعارف المتاحة في كل عصر دون انغلاق على دستور بعينه .

ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص كخصائص للحكم الأمثل .. ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا ولا نقصا فيه .
وتلك لمسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات . ونرد دين تجمد وتحجر وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة .

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).
(فلينظر الإنسان مم خلق .. خلق من ماء دافق .. يخرج من بين الصلب والترائب)
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى لأرض كيف سطحت).
أوامر صريحة بالنظر في خلق الإنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات الأرض وفي السماء وأفلاكها .. والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم الاجنة .
أوامر صريحة بالسير في الأرض وجمع الشواهد واستنباط الأحكام والقوانين ومعرفة كيف بدأ الخلق .. وهو ما نعرفه الآن بعلوم التطور  .
ولا خوف من الخطأ.

فالإسلام يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين.
وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتدم الغرب بالإلحاد .. والحق أننا تخلفنا حينما هجرنا أوامر ديننا.
وحينما كان المسلمون يأتمرون بهذه الآيات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من المحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء.
وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا. . وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى الآن بأسمائها العربية في المعاجم الأوروبية .. وما زالوا يسمون جهازالتقطير بالفرنسية imbique ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية. imbiquer ولم يتقدم الغرب بالإلحاد بل بالعلم.
وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو 
.
حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر .. فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على الإسلام وهو خطأ.. فالإسلام ليس بابوية ولا كهنوت.. الله لم يقم بينه وبين المسلمين أوصياء ولا وسطاء.
وحينما حكم الإسلام بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه المزاعم السطحية.
وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم ولا تقيم بين العلم والدين أي تنافض: (وقل ربي زدني علما ).
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم).
جعل الله الملائكة وأولي العلم في الآية مقترنين بشرف اسمه ونسبته.
وأول آية في القران وأول كلمة كانت " اقرأ " والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات:
 (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة.
فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم.
والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب ، وتاريخ الإسلام كله حركات إحياء وتطوير .. والقرآن بريء من تهمة التحجير على الناس وكل شيء في ديننا يقبل التطوير.. ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة.. لأن الله واحد ولن يتطور إلى اثنين أوثلاثة .. هذا أمر مطلق .. وكذلك  الشر شر والخير خير .. لن يصبح القتل فضيلة ولاالسرقة حسنة ولا الكذب حلية يتحلى بها الصالحون .
وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير .
وجوهر الإسلام عقلاني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل والمنطق 
.
وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل .. " أفلا يعقلون " .. " أفلا يفقهون" .
وأهل الدين عندنا هم " أولو الألباب" .
(شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون).
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).
احترام العقل في لب وصميم الديانة. والإيجابية عصبها والثورة روحها.
لم يكن الإسلام أبدا خانعا ولا سلبيا 
.
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
والجهاد بالنفس والمال والأولاد .. والقتال والثبات وعدم النكوص على الأعقاب ،ومواجهة اليأس والمصابة والمرابطة في صلب ديننا.

فكيف يمكن لدين بهذه المرونة والعقلانية والعلمية والإيجابية والثورة أن يتهم بالتحجر والجمود إلى من صديق عزيزمثل الدكتور القادم من فرنسا لا يعرف من أوليات دينه شيئا ولم يقرأ في قرآنه حرفا.

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "هل الدين أفيون ؟"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات